الخميس، 23 فبراير 2012

طبيب الثورة محمد المحمد

في مكان أضيق من قلب طفل يخفق خوفاً من شبح يفور تحت سريره، تقبع غرفة صغيرة تختنق بمجرد أن يدخل إليها أكثر من أربعة رجال، هذه الغرفة انقلبت إلى محراب صلوات تستغيث الرحمة وترجو الخلاص من عذابات من يدخل إليها محمولاً … فهذه الغرفة قد انقلبت مشفى ميدانياً في حمص…

ففي هذه الغرفة تتنازع أرواح الثوار والأبرياء فوق لوح مخضب بدماء من مُددوا فوقه، ويقف أمامه الطبيب وهو يزفر متثاقلاً بأثر الإرهاق بينما المصاب يشهق الأمل علّ الحياة تطول من أجل أن يعود إلى حيث كان يتظاهر فيعيش كرامة وعزة نفسه مرة إثر مرة…
رائحة الموت في الغرفة تبخر الأدوية وتغرق القطن الطبي والوثائق التي في المحافظ والمحابس التي تطوق الأصابع في الدماء… صدى الهلاك يسكب على الأرض أحلام رجالٍ كانوا قبل لحظات واقفين كالسد في وجه الطغيان، ففي هذه الغرفة تصطف قوارير ما زال فيها بضع رشفات من مسكنات الأوجاع ومخدرات الآلام، ويتدلى من الجدار كيس سيروم وقد بدا جافاً وكأنه ورقة اصفرت بفعل الخريف… من يلحظ تلك الأدوية يظنها لا تكفي لتضميد جرح طفل صغير بينما الطبيب يكفكف قطراتها ليوزعها على مصابي الحي بأكمله، أما الإبر والخيوط الطبية فلا تكفي لخياطة جرح انفتق من حي البياضة حتى حي بابا عمرو، والمعقمات لا تنفع مع سموم تسيل من رصاص اخترق الخالدية حتى باب سباع، والإسعافات الأولية لا تنفع مع شظايا قنابل اقتحمت باب تدمر حتى القصور… فهذه الغرفة تستغيث أي معونة مدعومة بالوسائل الضرورية لإنقاذ حياة إنسان، فحتى اسطوانة الأوكسجين التي تتكئ حزينة عند حائط آخر لا تكفي شهقة أخيرة لشهيد يبتلع العالم كله في رئتيه أملاً بعناق أهله للمرة الأخيرة…
أما الطبيب فيطبع بصمات الحياة بقفازيه المطاطيين المهترئين، وقد بدت من شقوقه أصابعه، على أرواح المصابين ويستخرج الرصاص من داخل أحشاء المصابين كما يستخرج البحار لؤلؤة من محارة، إلا أن المحارة هنا تعالج وتكافئ بفرصة حياة أخرى بينما ترمى الؤلؤة القذرة أرضاً وتداس بالأحذية تعبيراً عن الحقد وليد اللحظة تجاه القتلة…
وكما تهرب حبات الرمال من قبضة اليد، تنفلت روح المصاب من بين يدي الطبيب الذي ينحني فوق جسده لينعشه بقبلات الحياة الإسعافية ورجاء القلب أن لا يتوقف عن النبض بضغط كفيه على الصدر بقوة غاضبة أحياناً وبحنان يائس أحياناً أخرى… وعندما يؤتى بمصاب امتلئ جسده بالشظايا وقد تتطايرت بأثرها أحد أطرافه ونزف حتى ما عاد في جسده قطرة حياة، يجلس الطبيب لا يدري ما يفعل ، هل يواسي المصاب بالجنة أم يقمع القهر الذي في داخله كي يريح المصاب بأمل وإن كان عبثية تغيير القدر، فالطبيب لا يمتلك سوى أن ينتظر المصاب حتى ينطق الشهادة… وكلما ركن الجسد وجحظت العينان، يسود صمت في المكان يشوبه بكاء الطبيب، ما يلبث حتى ينتفض الطبيب ليستقبل مصاباً جديداً بهمة عالية على أمل يساعده في التقاط فرصة حياة أخرى…
ذات مرة أدخلوا إلى الطبيب مصاب بطلق ناري في قلبه ، احتار الطبيب ماذا يفعل، حتى وإن استخرج الرصاصة من القلب فلن تشرق الشمس من داخل هذا القلب من جديد…
ومرة أدخلوا طفلاً يافعاً وقد طار فكه بأثر شظية شهق لحاله الطبيب وقد تجمد الدم في رأسه وما استطاع معه شيء سوى أن يلقمه الشهادة…
كم عدد الرجال الذي مروا فوق ذلك اللوح وكم عدد النساء اللاتي مررن أيضاً من هنا، لا يهم فكلما جيء بطفل مدمى وقد انفتح صدره أو رأسه برصاصة نسي الطبيب أي معنى للحياة أمام ملائكية وجه مسجى بدمائه…
إن أتاه امرأة عجوز ناداها يا أمي اصبري، وإن كان رجلاً أو شاباً فناداه يا أخي فداك ستشفى بإذن الله، أما حينما يحملون إليه طفل فيبكي بحزن على حال لا نصير فيه أمام قاتل لا يميز بقنابله العشوائية أي فرد كان، فالمهم عند القاتل الإبادة الجماعية ، وهدفه أن تُسحق حمص ، وغايته أن لا يسقط الأسد حتى وإن كرر فعلة هولاكو الذي سوّد دجلة بحبر الكتب، فهو مستعد أن يجعل العاصي أحمر اللون بشرايين أهل حمص.
أجزاء هذه الغرفة صارت بادية لشاشات العالم عبر كاميرا شخصية تصور المكان وكأنها عين العالم على الحدث لتوثق كم هي الحياة غالية في النفس البشرية حيث الحر يأبى الهوان ويرفض الإنسحاب مقابل ثبات المبدأ، وقد صغر الموت في عيني الطبيب كرمى لجراحات أقسم على تضميد ما استطاع منها… فهذا الطبيب ما عاد يميز من الوجوه المخضبة أي فوارق، فكلها ثائرة ومستبشرة، وما عاد يرى أمامه إلا شروخات في الأجساد وكأنها أودية تباعد بين جبلين فتنفتح نافذة من داخلها حتى السماء كي تعرج منها الأرواح إلى حيث السكينة الإلهية تحقق وعدها بالجنة مقابل الشهادة…
ويقف الطبيب أمام الكاميرا منكسراً وغاضباً، يناشد من بقي في وجدانه ضميراً حياً ليحثه على نصرة المظلومين، ينادي أصحاب القرار، الأشقاء منهم والأصدقاء، إلا أن اليأس الذي في صوته يوقظ عقله على واقع المدينة المر حيث تخلى القريب قبل الغريب عن حماية أخوة الدم والعهد والدين، فيتجاهل من كان يناشدهم ثم يناشد بإيمان وقوة القدرة الإلهية على الحماية وصون ما تبقى في هذه المدينة من حيوات ويقسم على الثبات حتى النصر…
ثم يهدأ ويتضعضع فوق رأس شهيد بين يديه ويبكي معتقداً أن سبب موت هذا الشهيد تقصيره في إنعاش قلبه بينما من يتواجد معه بالغرفة يواسونه بأنه بذل المستحيل لينقذ من صار فرحاً بلقاء ربه ومستبشراً بجنة عرضها السموات والأرض.
وتحت وابل القذف البربري تصمد هذه الغرفة وتتنقل من حي إلى حي، كي لا تطالها براثن الأسد القذرة، من أجل أن تقترب نحو أولئك المخضبين بدمائهم ودماء جيرانهم، ولكن قلما دخل إليها جريح خرج على قدميه بفعل الذخيرة الفتاكة والعنيفة التي تستخدمها العصابة الأسدية في سحق ثورة الشعب الأبيّ، ولتستمر بسبب القتل وفود الشهداء بالقدوم إلى الغرفة للإسعاف، ولكن أغلب من يدخل إلى هذه الغرفة يتلفظ فيها آخر أنفاسه التي تبقى عالقة بين هذه الجدران القاتمة بظلال الموت، أما الطبيب ومن معه فيستنفرون وسط هذا الزحام من الآهات ونداءات الإغاثة، على أمل أن يقوموا بإنقاذ حياة إنسان ما ذنبه سوى أنه كان في مرمى قناص جبان مختبئ وراء ستار أو فوق سطح عالٍ، ولكن الصدمة تأخذهم كما الصاعقة تسحق الظلمة بضوئها، فيقعدهم العجز أمام فتحة كالشباك في جسد مصاب بفعل رصاصة تتفجر لحظة اقتحامها حرمة نفس بشرية لتنسف حياة معيل أسرة أو رحم أم أو براءة طفل…
أما تلك الكاميرا فتستمر ببث المآل الذي وصل إليه الشعب تحت الدمار وتكالب من كانوا يسمون مجازاً حماة الديار، ولتجبر العالم الصامت على أن يشاهد من تلك الغرفة نفس الوجوه، الطبيب وظلال الموت وزجاجة الدواء ذات القطرات المتهالكة وعدد لا حصر له من الشهداء… تلك الكاميرا تحرج كل من يدعي الشرف من أصحاب القرار في العالم على أن يشهدوا على تقصيرهم في تلبية نداءات الطبيب وغرغرة أرواح الشهداء الذين لم يطلبوا شيئاً أبعد من دواء وحماية للناس الأبرياء من مجنون فرغ وجدانه من أي وازع أو ناموس…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق