الأربعاء، 22 فبراير 2012

عرس في حمص

انتظرتْ طويلاً, لقد تجاوزت الثلاثين من عمرها وقطعت الأمل بالزواج خاصة في هذه الظروف, في الشهر العاشر من الثورة السورية المباركة, حيث أصبح خطر الموت يهدد ويداهم كل كائن بشري في أي زمان ومكان , إما من رصاصة قناص في وضح النهار أو من قذيفة هاون خجولة تزور المنازل ليلاً في عتمة الظلمة الغادرة وتقتل من بداخلها نتيجة سقوط الأسقف على رؤوس
أصحابها. نسيت حياتها لتعيش في حياة الآخرين تتألم بألمهم وتفتخر بجيلها الرافض لعبودية الأصنام.
تذكرت عزوبيتها عندما رن هاتف المنزل , حديث الهاتف كان مقتضباً إذ طلب الجانب الآخر موعداً للزيارة غداً إن أمكن, وإن جرت الأمور على ما يرام سيأتي العريس في الزيارة التالية في حال القبول من الطرفين. لم تكن متوترة كثيراً من المكالمة الهاتفية حين أعلمتها أم العريس أن ابنها يراها عادة عند ذهابها إلى عملها وأنه معجب بها, الحمد لله هَمْ و زال عن نفسها إذ بدأت تشك في جمالها و أخلاقها و سيرتها بين الناس لتأخر نصيبها في الزواج. حدث اللقاء في اليوم الثاني مع الأهل وحل إعجاب متبادل و أكثر ما لفت نظر الجميع خجلها المربك الظاهر و المضحك في بعض تصرفاتها خاصة عند تقديم ضيافة القهوة حيث رقصت الفناجين و اهتزت كأنها تشارك الدبكة السورية في احتفالها, موعد العريس كان بعد اسبوع سبحان الله ( الأرواح جنودٌ مجنّدة ) , أعجبت به بمظهره و كياسته واندفاعه في حديثه عن الثورة و إيمانه بانتصارها , قال بأنه يتظاهر غالباً في الأيام الأخيرة و سابقاً أيام الجمعة فقط و أنه لا يتمالك نفسه بالجلوس عند سماع شعار (مالنا غيرك يا الله ), خجلت من نفسها و صرحت أنها تظاهرت مراتٍ قليلة لعدم سماح أهلها خوفاً عليها , لكنها كانت تغامر مخبئة في حقيبتها ثيابا تنكّرية معلنة أنها ذاهبة لزيارة بنات خالتها, ما أن تصل لعندهن تغيّر ملابسها و مظهرها, ويذهبن جميعاً إلى مكان التظاهر , يتظاهرن و يسقطن النظام و تعود أدراجها بصحبة أخيها , الذي يقود سيارته بسرعة جنونية ليحقق الهدف البطولي بنجاح ألا و هو إيصال أخته من بيت خالته إلى المنزل بصحةٍ و عافية , لقد كان يشعر أنه مسؤول عن حمايتها كما كان شعوره عند حماية المتظاهرين في ساحات الحرية.

تحدد يوم العرس في منتصف الأسبوع بعيداً عن يومي الخميس و الجمعة لأن رفاق الثورة بانتظار مشاركة العريس, لقد سمحا لنفسيهما بالزواج في يوم الثلاثاء أهدأ أيام الأسبوع, فالجمعة هو يوم التظاهر الأكبر وهو يوم الشهداء أما السبت فهو يوم تشييع شهداء الجمعة والأحد يوم تشييع المشيّعين و الاثنين يوم العزاء سابقاً و التهنئة بسقوط الشهداء كافة أما يومي الأربعاء و الخميس هما للتحضير ليوم الجمعة العظيم , حتماً الثلاثاء هو اليوم المثالي للزواج . جاء يوم الثلاثاء السعيد و حضر العرس الأهل فقط و بعض الجيران الملاصقين لمنزل العريس , لأن الخروج إلى الشارع في هذه الأيام هو مشروع شهادة , لقد تقرر إجراء العرس ما بين الظهر و العصر حيث الأمان أكثر من بعد الغروب و أن تأتي العروس إلى منزل أهل العريس قبل الظهر مع أخواتها لمساعدتها في التبرّج و الزينة واللباس و بعد صلاة العصر يأتي العريس مع بعض أصدقائه إلى منزل أهله ويقضي ليلة عرسه عندهم وفي الصباح سيذهبان سوية إلى عش الزوجية إلى منزلهما أما شهر العسل سيكون بعد نجاح الثورة إن شاء الله.

قبل الظهر بدقائق غسلت شعرها فقط كونها استحمت في منزلها خجلاً من الإستحمام في منزل أهل العريس , جلست في غرفة مجهزة لخدمتها من أخواتها و صديقاتها , واحدة تكوي بدلة العرس البيضاء و الثانية تقوم بتلوين أظافرها و الثالثة بتجفيف شعرها و تزيينه بالطرحة البيضاء و التاج الماسي الذي طالما كان جزءاً من أحلامها , جميعهن عملن عليها و كأنهن في ورشة عمل حقيقية وهنّ حقاً في ورشة عمل.

نودي من الجامع القريب على صلاة الظهر الله أكبر… يا الله ما زلت غير جاهزة للظهور و الجلوس في الصالون , يا الله كيف يمر الوقت بسرعة… فكرت مستغربة … استمر الآذان حي على الفلاح لمرة واحدة بعدها انقطع الآذان عن غير عادة , ذهل الجميع مما حدث و سرعان ما تبددت صدمتهم عندما حلّ الظلام في أرجاء المنزل و ليس في غرفتها فقط , صحيح أن الوقت ظهرٌ لكن أهل العريس أغلقوا جميع النوافذ كي لا تُسمع أصوات الزغاريد و يُقصف المنزل مع من فيه لأن الزغاريد في أيامنا هذه مخصصة للشهداء و ليست للأعراس, فالأمن و الشبيحة لا يعلمون ما يحدث داخل المنازل كما يجهلون ما في نفوسنا من إصرار على نيل الحرية مهما كلفنا ذلك. لقد أجهشت بالبكاء لانقطاع التيار الكهربائي و هي في منتصف زينتها , إلا أن يداً حنونة ربتت على كتفها قائلة ألّا تبكي فالعروس لا تبكي في ليلة زفافها فالأمر بسيط و محسوب حسابه لوجود مولدة كهربائية جديدة تحت سطح الدرج, نادت أم العريس ابنها الأصغر و أمرته بتشغيلها, ما عليه سوى شد حبل المولدة لتضيئ بعض اللمبات و مسجلة صغيرة حاوية على شريط خاص بالحفلات. عندما تأخرت عودة الكهرباء المبجّلة إلى المنزل سألت أمه عن السبب فلوّح لها بحبل المولدة الذي انقطع من أول شدّة لاعناً البضاعة الصينية السيئة, نالت دولة الصين العظمى الشتائم من فوق الزنار على العلن , أما من تحت الزنار كانت في نفس كل مواطن ثائر حر لعلمه أن هذه الدولة شريكة مع النظام في قتل الأبرياء.

فتحت أختها النافذة قليلاً ليتسرب بعض الضوء إلى الغرفة متسللاً كاللص في منتصف الليل قائلة و مبتسمة : لن يلاحظ أحد عدم اكتمال الزينة و أنت جميلة بدونها , فلا مجال للحزن الآن . شكرت العروس الله على الظلمة ومشت مع أخواتها و صديقاتها إلى الصالون تحت ضوء بيل صغير يبث أشعة ليزرية زرقاء وشكرته مرة أخرى على ثيابها البيضاء الظاهرة في النهار المظلم.

جلست النسوة في الصالون و فرحن بدخول العروس الذي يشبه ظهور الشبح الهابط من السماء , زغردن بصوت منخفض جداً لي…..لي …..لي … لي …ليش ….. ها وعروستنا حلوي …و ها و اسم الله عليها .. و ها ما شا الله عليها … و ها مالنا غيرك يا الله لترتفع الأصوات شيئاً فشيئاً مرددين الله أكبر .. الله أكبر … وبدنا نشيلك يا بشار بهمتنا القوية… سورية بدها حرية… سورية بدها حرية …هتفت العروس ضاحكة : و بدي العريس معاها … الله يخليكن اخفضوا أصواتكن ودعوا اليوم يمر على خير.

انتبهت النسوة أن العرس تحول إلى مظاهرة فخفضن أصواتهن وطلبن الرقص لسببين أولهما تعبيراً عن الفرح و ثانيهما كي لا يتجمدن من شدة البرد بسبب انقطاع التيار الكهربائي فأهل العريس ميسوري الحال و عندهم تدفئة مركزية ( شوفاج ) لعنة الله على الترف ! شو بتقول الصوبيا إن كانت على الحطب أو المازوت !
جلبت إحداهن طنجرة نحاسية من المطبخ و قرعت عليها ما يشبه الإيقاعات و قمن بالهز أكثر من الرقص من أجل التدفئة و ليس للتشبه بالإفرنج ….

ضحكن و رقصن و تسامرن و كأن شيئاً لا يحدث في الخارج, مضت حوالي الساعتين و النصف فإذا بهنّ يسمعن الله أكبر من المسجد منبهاً بقدوم صلاة العصر مهنئين أنفسهن بعودة الكهرباء, لبسن عباءاتهن لاقتراب موعد قدوم العريس مع بعض الأصدقاء اللذين أحضروا ثيابه في ما يسمى ببقجة العريس و ألبسوه مع الأهازيج و بصوت منخفض أيضاً , حمله صديقه على كتفه بعد أن خرجوا من منزل عمه القريب من منزله .
ما أن خطوا بضع خطوات و إذا برصاصة روسية جيدة الصنع من قناص متمركز على سطح بناء مجاور تخترق قلب العريس لترديه قتيلاً , شعر الصديق بدم دافئ ينسال على شعره ووجهه و ثيابه , فاق من صدمته بعد أن رأى صديقه واقعاً من على ظهره ممدداً على الأرض مغطىً بدمائه الطاهرة صاح بأعلى صوته مخترقاً السماء : الله أكبر….الله أكبر….ردد الجميع وراءه : الله أكبر , لا إله إلا الله ….عريسنا زين يتهنّا ….طلب الشهادة و تمنّا….
حمله أصدقاؤه على الأكتاف مهلّلين مكبّرين , ما أن وصلوا إلى منزله حتى كادت تمشي وراءهم أكبر مظاهرة شهدتها مدينتي للعريس الشهيد.

أطلت النسوة من النوافذ ووقف بعضهن على الشرفات لترى و تشهد ما يحدث و سرعان ما زغردن للموكب المقدس , وهل يوجد قدسية أعظم من موكب شهيد في نهار عرسه؟
انهمرت الدموع , دموع الفرح والحزن , دموع الدهشة والاستغراب , دموع التساؤل عما حدث و يحدث , دموع الجريمة و العقاب , جريمة الزواج وعقاب الإنجاب , إنجاب أطفالٍ أحرار.
سالت دموعها على خدّيها محدثة أخدودين لساقيتين من المرارة , انتبهت لنفسها و لدموعها , مسحت بمنديلها الأبيض دموع الصبر والسلوان و صرخت بأعلى صوتها و زغرودتها تشق عباب السماء: أنا زوجة الشهيد العريس , أنا زوجة الشهيد …

استمرت المظاهرة حتى المساء تحت شرفة منزلهم و باركت لها النسوة بشهادة زوجها إذ دخل الجنة من أوسع أبوابها قبل أن يدخل باب منزل الزوجية.


——————————————–
By: Free Sibai

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق