الثلاثاء، 21 فبراير 2012

مشكلة المسيحيين















أستحضر جملة ذكرها والدي في جلسة عائلية موسعة قبل سنين، قال: “المسيحيين إشراقة في هذا الشرق”. كنت في صف البكالوريا، ووجدت فيها حينها شيئاً من الصحة، ومع الأيام بدأت أؤمن بهذه الفكرة أكثر فأكثر. تاريخنا المشرقي ثري بالعديد من الأسماء اللامعة لأيقونات مسيحية ساهمت في بناء الدولة العربية حين كانت دولة إسلامية، وفي تكوين الثقافة العربية في شتى مجالاتها. لا هم نفروا من الدولة، ولا الدولة غبنت حقهم أو بخست جهودهم.

هذا ليس محور حديثي، فما أريد أن أسلط الضوء عليه هو أن المسيحيين يمارسون تهميشاً جائراً بحق أنفسهم. كأنه يعجبهم منطق الأقلية، أو يأنسون إلى فكرة الضحية وأنهم مستهدفون في دينهم وعقائدهم وأسلوب حياتهم وما إلى ذلك. لماذا يُقصون أنفسهم بأنفسهم؟ وما هي مبررات تقوقعهم داخل حجرة دينهم؟ لماذا هذا التغريب الذي يفرضونه على أنفسهم، دون أن يجبرهم عليه أحد، خاصة في سوريا.
المثال الأبرز هو وجود أحياء خاصة بهم في كل مدينة كأن ذلك يشعرهم بأمان جيرة مسيحية بدل من وحش مفترس يتربض بهم في الخارج! وجاءت الأحياء الجديدة (الجمعيات السكنية) لتبدد هذا الوهم. أنا، وغيري كثر، عشت في مثل هذه الأحياء ومن حولي العديد من العائلات المسيحية التي يبدو أنها اضطرت إلى مجاورة أخوانهم المسلمين، ولا أعرف ما إذا كانت ما زالت متحسرة. لكننا عشنا معهم نتبادل الفرح والحزن، الإشاعات والبسمات، ومأكولات المناسبات المسيحية والإسلامية، وضمن علاقة طبيعية للغاية، حسب ما خبرت.
أمثلة الحياة كثيرة التي تسطع كشواهد لاستبدال هذا الوهم بيقين واقعي، لكن دون جدوى. فيدخل المسيحي مع أخوه المسلم في علاقات طبيعية في المدرسة والعمل والنادي وكافة مناحي الحياة، ولكن ما إن يركن إلى بيته أو إلى إحساسه الدفين بأنه أقلية، حتى يعود ذلك الإلحاح غير المبرر بواجب الحذر. الحذر من ماذا؟ لا يذكر التاريخ السوري أن تعرض المسيحيون إلى أذى على أيدي المسلمين. ومن يروج إلى أن النظام الأسدي حامي الأقليات، يمكنه أن يدرك بنظرة سريعة إلى الماض القريب، قبل وصول البعث، أن الدور المسيحي كان أكثر تأثيراً في المجتمع السوري، وفارس الخوري مثال صارخ. وأذكره بالتحديد للتنويه إلى أنني لا أذكر أن أي من كتبنا المدرسية تأتي على ذكر اسمه، ناهيك عن سيرته السياسية ومواقفه الوطنية بامتياز. وهنا أضع الكثير من علامات الاستفهام.
مر الصليبيون بكل مذابحهم وفجورهم وأصر المسلمون والمسيحيون على أخوّتهم. واجتاح بلادنا الفرنسيون وما لف لفهم من بعثات تبشيرية، وظل الأهل أهل ولم يحمّل المسلمون وزر استعمار مسيحي لمسيحي البلد، ولم يتوان المسيحيون عن مناهضة الاستعمار. ونعود إلى فارس الخوري رجل الدولة الفذ الذي قصد المسجد الأموي واعتلى المنبر وقال: إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله. فحمله مصلو الجامع مفتخرين بابن البلد، وخرج المسيحيون يهتفون بشهادة المسلمين في شوارع الشام.
ولي هنا مثال وطني وإنساني آخر قد لا يعرفه الكثير من السوريين. كثيراً ما ذكر أمامي أصدقاء من حماة أن المسيحيين كانوا يحمون شباب جيرانهم المسلمين من القتل الجماعي والتصفية على عتبات الأبواب. فكانوا يستقبلونهم في بيوتهمو ويصبح محمد اسمه جورج ويستبدل خالد اسمه بطوني حتى يغيب شر الفجار من حماة الديار.
أحاول أن أشخّص حالة في وطننا الحبيب، وأبتعد عن المشاعر والرومانسيات، ولكن كيف لي أن أقفز على علاقتي الطيبة والوطيدة مع أصداقاء مسيحيين، دخلوا بيتي ودخلت بيوتهم. تقاسمنا البسمات كما النزاعات. أحببتهم كثيراً وكرهتهم قليلاً، مثل غيرهم. صاموا أمامنا حين كنا نصوم، حتى أن أحدهم كان ينقطع لرفعة أخلاقه عن كل مأكل أو دخان طوال وقت الصيام حين كان يجمعنا بيت واحد أيام الجامعة، إلى أن نجتمع على مائدة رمضان.
ولزم علي أن أؤكد هنا أنني لا أقصد من هذه الكلمات استمالة المسيحيين إلى الثورة، فهذه الفكرة في حد ذاتها ترسخ مبدأ تغريبهم في مجتمعهم. لم نستميلهم؟ الأمر الطبيعي أن يكونوا كسائر مكونات مجتمعنا السوري. منهم من جذبته الثورة ومنهم من ما زال يراهن على النظام، كالمسلمين. فليتخذوا موقفهم دون الاتكاء على رواسب مقيتة تبعدهم عن أحقيتهم في تقرير مصير هذا البلد الذي حضن آباءهم وسيحضن أولادهم من بعدهم.
كلنا يعرف أن النظام البائس استغل مشاعر الأقليات ولعب عليها وما زال يضع ثقل شره لشرذمة المجتمع السوري. النظام زائل، ومطلب إسقاط النظام سينتهي بسقوطه. لكن بقناعتي أن الثورة السورية ليست ثورة على النظام وحسب، هذه فقط البداية اللازمة والمؤسسة لما بعدها من تغيير حق وقته. هي ثورة على النفس، وعلى الأوهام وما أكثرها، وعلى الثوابت الواهية، والأمراض المجتمعية المستشرية، وعلى التقديس الأعمى لأي كان ابتداء من خطيب الجامع وليس انتهاء بالرئيس، وعلى الأنا والاستفراد، وعلى نحن وهم.

ثارت الأرياف والبلدات القاصية، وهم المهمشون الحقيقيون، ليذكروا الجميع أن هم أيضاً سوريون، ولهم الحق بأن يقولوا كلمتهم، وتُسمع. أيها المسيحيون، انعتقوا الآن من خرافات الحذر والتوجّس، ولا تربطوا مصيركم بنظام، هذا النظام أو أي نظام يليه، أوثقوا مصيركم بمصير أخوتكم في البلد. أنتم أهل البلد، إلا إذا كنتم مصرين على لعب دور الغريب، أو الضيف على أفضل تقدير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق